نزلات البرد والمضادات الحيوية
نزلات
البرد من أكثر الأمراض شيوعًا في العالم، حيث يُصاب بها ملايين الأشخاص سنويًا،
وتُعتبر سببًا رئيسيًا للتغيب عن العمل والدراسة. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن نزلات
البرد ليست مرضًا بحد ذاته، بل هي مجموعة من الأعراض الناتجة عن عدوى فيروسية تصيب
الجهاز التنفسي العلوي، مثل فيروسات الرينو (Rhinovirus) أو كورونا الشائعة (وليست كورونا كوفيد-19). هذه الفيروسات
تدخل الجسم عبر الأنف أو الفم أو العينين، خصوصًا عند ملامسة الأسطح الملوثة أو
الاقتراب من شخص مصاب. وتتمثل الأعراض الشائعة في سيلان الأنف، العطس، التهاب
الحلق، الصداع، والتعب العام. ومن المهم أن نوضح أن نزلات البرد تختلف عن
الإنفلونزا؛ فالأخيرة أشد وطأة وتسبب حمى وآلامًا جسدية قوية. أحدث الدراسات تؤكد
أن نزلات البرد في معظم الأحيان لا تستدعي أي تدخل دوائي محدد، وإنما يكفي الراحة
وشرب السوائل لتخفيف الأعراض.
لماذا لا
تنفع المضادات الحيوية في نزلات البرد؟
الكثير
من الناس يعتقدون أن تناول المضاد الحيوي يسرع الشفاء من نزلات البرد، لكن الحقيقة
الطبية المؤكدة هي أن المضادات الحيوية لا تعالج العدوى الفيروسية، وإنما تعمل فقط
على قتل البكتيريا أو إضعافها. بما أن نزلات البرد سببها فيروسات، فإن استخدام
المضاد الحيوي لن يكون له أي تأثير إيجابي. بل على العكس، فإن الاستخدام الخاطئ أو
المفرط لهذه الأدوية يؤدي إلى مشكلة عالمية تُعرف باسم مقاومة المضادات الحيوية،
وهي تجعل البكتيريا تطور مقاومة تجعل علاجها في المستقبل أصعب بكثير. وفقًا
لتقارير WHO، فإن نصف وصفات المضادات
الحيوية حول العالم تُستخدم بشكل غير مناسب، وغالبًا لعلاج أمراض فيروسية مثل
البرد. لذلك فإن الوعي بهذه النقطة أصبح أمرًا حتميًا لحماية الصحة العامة والحفاظ
على فعالية هذه الأدوية للأجيال القادمة.
كيف
نفرّق بين نزلات البرد والعدوى البكتيرية؟
من
الأسئلة الشائعة عند الناس: "كيف أعرف إذا كنت بحاجة لمضاد حيوي أم لا؟"
الإجابة تكمن في الأعراض. نزلات البرد عادةً ما تكون خفيفة وتتحسن تدريجيًا خلال
7–10 أيام، حتى دون علاج. أما العدوى البكتيرية فقد تظهر عندما تستمر الأعراض لأكثر
من 10 أيام دون تحسن، أو إذا ساءت فجأة بعد فترة من التحسن، أو عند وجود حرارة
عالية ومستقرة فوق 38.5° مئوية مع إفرازات صفراء أو خضراء كثيفة. من الأمثلة على
الأمراض البكتيرية التي قد تستلزم مضادًا حيويًا: التهاب اللوزتين البكتيري،
التهاب الأذن الوسطى، أو التهاب الجيوب الأنفية البكتيري. ويشدد الأطباء على أن
التشخيص الصحيح لا يجب أن يتم عبر تخمين المريض، بل بزيارة الطبيب لتحديد ما إذا
كانت العدوى فيروسية أم بكتيرية.
طرق
طبيعية وحديثة للتخفيف من نزلات البرد
حتى وإن
لم تنفع المضادات الحيوية، فهذا لا يعني أن المريض بلا خيارات. هناك العديد من
الأساليب الفعّالة التي تخفف الأعراض وتسرع التعافي.
على
رأسها: الراحة
التامة التي تمنح الجهاز المناعي فرصة للعمل بكفاءة، وشرب كميات كافية من
الماء والسوائل الدافئة لترطيب الحلق وتقليل الاحتقان.
كما أن
استنشاق البخار أو استخدام محلول ملحي لغسل الأنف يساعد على إزالة المخاط وتحسين
التنفس. من الوسائل الحديثة التي أثبتت الدراسات فاعليتها: استخدام مكملات
الزنك وفيتامين
C في بداية
الإصابة، حيث تشير بعض الأبحاث إلى أنها تقلل من مدة الأعراض إن تم تناولها
مبكرًا. كذلك، استخدام العسل الطبيعي للأطفال فوق سن السنة يساعد في تخفيف
السعال الليلي. وهنا يجدر التنويه أن هذه العلاجات لا تشفي المرض لكنها تدعم الجسم
في التغلب عليه بسرعة وأمان.
مخاطر
الإفراط في استخدام المضادات الحيوية
إدمان
المجتمع على المضادات الحيوية أصبح مشكلة صحية عالمية تهدد مستقبل الطب. تقارير منظمة الصحة العالمية تحذر من
أن العالم مقبل على "عصر ما بعد المضادات الحيوية"، حيث قد تصبح
الالتهابات البسيطة مثل التهاب الحلق أو الجروح السطحية قاتلة، بسبب فقدان فاعلية
هذه الأدوية. الاستخدام الخاطئ للمضادات في نزلات البرد يزيد من مقاومة البكتيريا
ويؤدي أيضًا إلى آثار جانبية خطيرة على الفرد مثل الإسهال، التحسس الجلدي،
اضطرابات المعدة، أو حتى التهابات فطرية مزمنة. علاوة على ذلك، فإن بعض المضادات
قد تتفاعل مع أدوية أخرى يتناولها المريض مما يشكل خطرًا مضاعفًا. لذلك أصبح من
الضروري رفع وعي المجتمع بأن المضاد الحيوي ليس دواءً سحريًا يُستخدم عند أي مرض،
بل يجب أن يُعطى فقط تحت إشراف طبي وبأسباب واضحة.
التوصيات
الطبية الحديثة للتعامل مع نزلات البرد
الخلاصة
التي يجمع عليها الأطباء هي أن نزلات البرد أمر طبيعي لا مفر منه، لكن حسن التعامل
معها يقلل من مضاعفاتها. أحدث التوصيات تدعو إلى: تجنب استخدام المضادات الحيوية
تمامًا إلا إذا أكد الطبيب وجود عدوى بكتيرية، التركيز على الراحة والنوم الجيد،
شرب السوائل بانتظام، استخدام مسكنات بسيطة مثل الباراسيتامول أو الإيبوبروفين
لتخفيف الأعراض، وتجنب التدخين والأجواء الملوثة التي تهيّج الجهاز التنفسي. كما
ينصح الأطباء بالوقاية عبر غسل اليدين جيدًا، استخدام المعقمات عند الضرورة، تجنب
مشاركة الأدوات الشخصية، والابتعاد عن الأشخاص المصابين خاصة في أماكن العمل
والمدارس. وفي زمن الوعي الصحي المتزايد، يُعتبر تثقيف النفس والأطفال عن
الاستخدام الصحيح للأدوية أهم استثمار في حماية الصحة الفردية والعامة.