في أقصى غرب السودان، حيث تنام الشمس على كثبان دارفور، قامت الفاشر يوماً كعاصمةٍ للسلطان والعلم والتاريخ. واليوم، تقف المدينة ذاتها تحت سُحبٍ من الدخان والدمار، شاهدةً على واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في هذا القرن: الإبادة في الفاشر.
لم تعد الأخبار القادمة منها مجرد أرقامٍ باردة، بل صرخاتٍ مكتومة تحملها الريح من بيتٍ إلى بيت، ومن مقبرةٍ إلى أخرى، لتروي للعالم قصة مدينةٍ ذُبحت على مرأى الجميع.
مدينة تتنفس الحزن
كانت الفاشر قلب دارفور النابض بالحياة، مليئة بالأسواق والضحكات والأحلام الصغيرة. لكن كل شيء تغيّر.
فجأة، تحولت الأزقة التي كانت تمتلئ بأصوات الأطفال إلى ممراتٍ للموت. والبيوت التي كانت تعجّ برائحة الخبز والقهوة أصبحت ركامًا يتصاعد منه الغبار.
لم تعد المدينة كما كانت؛ صارت تُعرف اليوم بوجعها، بدموع الأمهات، وبأجساد الأبرياء الذين سقطوا لأنهم فقط وُجدوا في المكان الخطأ.
الإبادة.. حين يموت الإنسان مرتين
في الفاشر، لا يُقتل الناس فقط برصاص البنادق، بل بصمت العالم أيضًا.
القتل هنا ليس حدثًا عابرًا، بل مشهدًا متكررًا يتبدل فيه الضحايا، وتبقى المأساة.
المدنيون يُستهدفون بلا تمييز: نساءٌ تُغتصب، أطفالٌ يُقتلون في أحضان أمهاتهم، شيوخٌ يختفون، وشبابٌ يُدفنون دون أسماء.
كل شيء صار مباحًا في زمن الجنون، حتى الكرامة نفسها صارت جريمة.
قال أحد الناجين من المدينة:
"لم نعد نعرف من نخاف أكثر.. الرصاص أم الصمت. كنا نركض باتجاه الحياة، لكنها كانت تركض منا."
الوجوه التي لا تُنسى
في كل شارع من شوارع الفاشر قصة، وفي كل بيت مأساة.
امرأة فقدت أبناءها الثلاثة في يومٍ واحد، وآخر دفن أمه بيديه، وطفل ظل يبكي ثلاثة أيامٍ بجوار جثة أبيه قبل أن يجده أحد.
هذه ليست روايات خيالية، بل واقعٌ يحدث الآن، في القرن الحادي والعشرين، أمام عدساتٍ لا تريد أن ترى.
الفاشر اليوم ليست مدينة، بل جرحٌ مفتوح في ضمير الإنسانية.
العالم الأعمى
ربما أسوأ ما في الإبادة ليس القتل ذاته، بل التجاهل الذي يليه.
لقد صرخ أهل الفاشر طويلاً، لكن العالم كان أصمّاً.
المنظمات تتحدث عن "أزمة إنسانية"، والسياسيون يكررون كلماتٍ منمّقة عن "القلق العميق"، لكن لا أحد يوقف نزيف الدم.
في كل دقيقة تمر، هناك طفل يموت جوعًا، وامرأة تُغتصب خوفًا، ورجل يُعدم لأنه تمسّك بالحياة.
فأي إنسانية تلك التي تتفرج على الألم وكأنه فيلم وثائقي طويل؟
رماد على الذاكرة
حين تزور أطراف الفاشر اليوم، ترى بيوتًا نصفها مهدّم، ومدارس تحولت إلى ملاجئ، ومستشفيات بلا دواء.
حتى المقابر لم تعد تكفي، فصار الناس يدفنون موتاهم في الحدائق والساحات العامة.
ورغم كل ذلك، تجد من بين الركام طفلاً يحمل دفتراً ممزقاً يحاول أن يكتب عليه كلمة "سلام".
تلك الكلمة البسيطة التي صارت في الفاشر أغلى من الذهب.
النساء.. شهيدات الصبر
في قلب المأساة، تتجلى عظمة نساء الفاشر.
أمهاتٌ فقدن كل شيء إلا الإيمان، يسقين الأطفال ما تبقى من الماء، ويغنين رغم الجوع والخوف.
إحداهن قالت بصوتٍ خافت:
"قد يأخذون بيوتنا، لكنهم لن يأخذوا أرواحنا."
إنهن العمود الفقري لهذه المدينة، يصنعن من الرماد خبزًا، ومن الحزن دعاءً، ومن الموت إرادة حياة.
الذاكرة الممزقة
أجيالٌ كاملة تكبر وسط الحرب، لا تعرف طعم الطفولة ولا معنى الأمان.
المدارس مغلقة، والكتب محترقة، والأحلام مؤجلة إلى أجلٍ غير مسمى.
لكن ذاكرة الفاشر لا تموت، فكل جيلٍ يورّث التالي حكاية الصمود.
إنها ليست فقط إبادة لأجساد الناس، بل محاولةٌ لطمس هويةٍ وثقافةٍ عمرها مئات السنين.
ومع ذلك، يبقى في كل بيتٍ بصيص نورٍ يقول: "لن تُمحى الفاشر من الذاكرة."
صوت من بين الركام
من بين أنقاض المدينة، يخرج صوتٌ ضعيف لكنه واضح:
"لسنا أرقامًا في نشرات الأخبار، نحن بشر نحب ونحلم ونريد أن نعيش."
هذا الصوت يلخّص المأساة كلها.
فالفاشر ليست ساحة حرب، بل بيتٌ كبيرٌ لأناسٍ مسالمين، ذنبهم الوحيد أنهم وُلدوا في زمنٍ لا يعرف الرحمة.
من سيكتب التاريخ؟
سيأتي يومٌ تُفتح فيه كتب التاريخ، وسيسأل طفلٌ صغير: "لماذا تركوا الفاشر تحترق؟"
وسيجيب أحدهم بصوتٍ خافت: "لأن العالم كان مشغولاً بنفسه."
لكن التاريخ لا يرحم الصامتين، وسيسجل أن في هذه الأرض كانت إبادة، وأن هناك من شاهدها ولم يفعل شيئًا.
ربما لن تعود الأرواح التي أُزهقت، لكن العدالة يجب أن تُبعث، ولو بعد حين.
الفاشر.. من الموت إلى الحياة
ورغم كل ما حدث، ما زال في الفاشر قلبٌ ينبض.
هناك من يبني مدرسة وسط الركام، ومن يعالج الجرحى بضماداتٍ من ثيابٍ قديمة، ومن يوزع الماء رغم الخطر.
إنها مشاهد لا تُرى في نشرات الأخبار، لكنها تُكتب في سجل البطولة.
فالفاشر، التي أرادوا لها أن تموت، ترفض أن تنحني.
تقاوم بكرامتها، وتقول للعالم: "قد خسرنا كل شيء، إلا إنسانيتنا."
الخاتمة.. كي لا ننسى
الإبادة في الفاشر ليست مأساة سودانية فقط، بل جرحٌ في ضمير البشرية كلها.
مدينةٌ بأكملها تصرخ، والضمير الإنساني في سباتٍ عميق.
لكن الشعوب لا تموت، والفاشر لن تموت.
ستُعاد الحياة إلى ترابها، وسيُبنى المستقبل على دماء الأبرياء الذين رحلوا وهم يحلمون بوطنٍ لا يُقتل فيه الإنسان لأنه مختلف.
حين تهدأ المدافع، سيبقى اسم الفاشر شاهدًا على الألم، وعلى الصمود أيضًا.
فمن بين الدمار يولد الإيمان، ومن بين الموت تخرج الحياة.
وهكذا ستظل الفاشر، رغم كل شيء، مدينةً لا تُنسى.
