منقول من موقع العربية نت
يُعدّ البيت الأبيض أكثر من مجرد مقر رسمي لرئيس الولايات المتحدة، فهو رمز سياسي وتاريخي يجسّد السلطة الأميركية ومراحل تطورها عبر أكثر من قرنين.
غير أن المبنى الذي يراه العالم اليوم لم يبقَ على هيئته الأولى، إذ شهد عبر تاريخه سلسلة طويلة من عمليات إعادة البناء والترميم والتوسع التي عكست التحولات في السياسة والذوق العام، وصولًا إلى التغييرات المثيرة للجدل التي أثارها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً، والتي تتصل بإقامته قاعة كبرى للرقص والاحتفالات.
من فكرة إلى أيقونة
بحسب الموقع الرسمي للبيت الأبيض، بدأت قصة البيت الأبيض في عام 1792، حين اختار الرئيس جورج واشنطن موقعه على ضفة نهر بوتوماك، فيما أشرف المعماري الإيرلندي جيمس هوبان على تصميمه بأسلوب كلاسيكي مستوحى من القصور الأوروبية.
لكن الرئيس واشنطن لم يحظ بفرصة للسكن في بيت الحكم الجديد، حيث اكتمل البناء عام 1800، ليكون مقرا للرئيس جون آدامز، أول من سكنه رسميا.
ولم يصمد المبنى طويلاً دون أزمات، ففي عام 1814، تعرّض لحريق مدمّر على يد القوات البريطانية خلال حرب 1812، فأُعيد بناؤه بالكامل وفق التصميم الأصلي، وأضيفت إليه الواجهة البيضاء التي أكسبته اسمه الحالي.
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خضع البيت الأبيض لعدة توسعات داخلية وخارجية لتلبية احتياجات الرؤساء المتعاقبين.
كما أضيفت غرف استقبال رسمية جديدة، وتمّ تحديث المكاتب والإقامات الخاصة، مع المحافظة على الطابع الكلاسيكي المميز، حسبما يشير موقع The White House Historical Association.
وفي عام 1902، أطلق الرئيس ثيودور روزفلت مشروع تجديد شامل نقل بموجبه المكاتب الإدارية إلى "الجناح الغربي" الذي بُني خصيصا لذلك، لتنشأ لأول مرة غرفة "المكتب البيضاوي" التي باتت مركز السلطة التنفيذية.
وفي منتصف القرن العشرين، واجه البيت الأبيض أخطر مراحله الإنشائية عندما اكتُشف عام 1948 أن البنية الداخلية مهددة بالانهيار نتيجة تقادم الهياكل الخشبية.
فأمر الرئيس هاري ترومان بإخلاء المبنى وإعادة بنائه من الداخل بالكامل مع الحفاظ على الجدران الخارجية.
واستغرقت العملية أربع سنوات، ليعود الرئيس للإقامة فيه عام 1952، بعد أن تم تزويده بإطار فولاذي حديث يضمن متانته لعقود.
لمسات جمالية وتحديثات متتالية توالت بعد ذلك أعمال الترميم والصيانة، وشهدت إدارات مختلفة تعديلات محدودة في الديكور والحدائق، أبرزها في عهد جاكلين زوجة الرئيس جون كينيدي في ستينات القرن الماضي، التي أعادت تصميم القاعات التاريخية بذوق فني راقٍ وأثاث فرنسي كلاسيكي ما زال يحتفظ به حتى اليوم.
كما جرى في العقود التالية تحديث البنية التحتية لتتلاءم مع معايير الأمان والاتصالات الحديثة، شملت أنظمة التهوية والحماية من الهجمات الكيميائية والإلكترونية.
وفي الأيام الأخيرة، أعاد الرئيس دونالد ترمب الجدل حول هوية البيت الأبيض بعد سلسلة تعديلات مثيرة، منها إزالة أجزاء من حديقة الورود الشهيرة لإقامة مساحة حجرية أقرب إلى طابع منتجعه الخاص في فلوريدا "مارالاغو"، وإدخال لمسات زخرفية ذهبية على ديكور المكتب البيضاوي.
غير أن الخطوة الأبرز تمثّلت في هدم "الجناح الشرقي" مؤخرا لبناء قاعة احتفالات فخمة بقيمة تقارب 300 مليون دولار بتمويل من متبرعين من القطاع الخاص، ما أثار انتقادات واسعة من المؤرخين وخبراء التراث الذين رأوا في القرار تعديًا على إرث وطني يرمز إلى وحدة البلاد واستمرارية الحكم.
بدوره، قال المؤرخ الأميركي إدوارد لينغل إن المشروع "جعل من البيت الأبيض نصبا شخصيا أكثر من كونه مؤسسة وطنية"، معتبرا أن ما حدث يمثل "تجسيداً لذهنية رجل الأعمال أكثر من روح الحارس على إرث الأمة"، بحسب تعليق لـ"رويترز" اليوم السبت.
ورغم الجدل الذي رافق معظم أعمال التجديد، يبقى البيت الأبيض شاهدا حيا على تاريخ الولايات المتحدة السياسي والمعماري، حيث تعاقب عليه 46 رئيسا، واحتضن قرارات كبرى غيّرت وجه العالم.
ومن المؤكد أن كل تعديل، مهما أثار من انقسام، يعكس في النهاية ملامح المرحلة السياسية والثقافية التي عاشتها البلاد.
كما يبقى البيت الأبيض بين جدرانه التي شهدت الحروب والسلام والاحتفالات والمآسي، رمزا لثبات النظام الأميركي حتى وإن تغيّرت ملامحه مع كل جيل جديد من القادة.