أخطر الكائنات الحية في العالم طولها سنتيمتر واحد


 لا يحمل سلاحاً، لكنه ينتقل بين البشر ويقتلهم بخفة القاتل المتسلسل، فهو الأكثر فتكاً على وجه الأرض، وبينما تتجه أنظار العالم إلى الحروب والعنف والحوادث والأوبئة والوحوش الضخمة ذات الأنياب، يظل البعوض، ذلك الكائن الهش، العدو القديم الذي يتفوق في حربه الصامتة ضد البشرية، حاصداً أرواح أكثر مما حصدت كل الحروب مجتمعة، فعدد ضحاياه كل سنة يصل حد تعداد سكان مدينة كبيرة مثل فرانكفورت أو جنيف. لكن يبقى السؤال الأهم كيف تحولت هذه الحشرة الضئيلة إلى أكبر تهديد لحياة البشر؟

ملاريا.png

بيئة خصبة

يوجد البعوض في كل القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية، حيث يعيش في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية والمعتدلة، ويخضع البعوض لدورة حياة معقدة تتضمن مراحل مائية وبرية، فهو يحتاج إلى كمية قليلة من الماء الراكد لوضع البيض في البرك أو الخنادق أو الحاويات والمستنقعات التي تعد بيئة مثالية لتكاثره بسرعة هائلة، حيث تضع الإناث بيضها في الماء، مما يؤدي إلى ظهور اليرقات والشرانق قبل التطور إلى البعوض البالغ، فهذه المياه الغنية بالمغذيات على نمو يرقات البعوض تمكنها من النضج والتحول إلى بعوض بالغ. إضافة إلى ذلك تشكل حقول الرز المروية مساحات شاسعة من المياه الراكدة، مما يوفر بيئة خصبة لتكاثر البعوض، ويسهل وجود المياه في هذه الحقول فترات طويلة تكاثر البعوض.

في الـ20 من أغسطس (آب) عام 1897 اكتشف طبيب بريطاني طفيلي الملاريا في معدة أنثى بعوضة "الأنوفيلة"، مقدماً بذلك أول دليل على أن البعوض ينقل الملاريا بين البشر. واليوم، وبعد أكثر من 125 عاماً، لا يعرف بالضبط عدد مرات لدغات البعوض سنوياً، إذ لا يبلغ عن معظمها، ولكن يقدر أن البعوض ينقل الأمراض إلى أكثر من 700 مليون شخص سنوياً، ما يؤدي إلى أكثر من 700 ألف حال وفاة، أي ما يقارب واحد من كل 10 أشخاص. ويرى العلماء أن أسرع مرض منقول بالبعوض انتشاراً في العالم لا يظهر أي علامات على التراجع، إنما هناك ارتفاع ملحوظ في المحيط الهادئ عام 2025، حيث أعلنت كل من ساموا وفيجي وتونغا وجزر كوك تفشي المرض. وعن هذا قال الدكتور غريغ ديفاين المدير الأول لعلم الحشرات الميدانية في برنامج مكافحة حمى الضنك "تعد حمى الضنك أكثر الأمراض انتشاراً في العالم، وينتشر من طريق البعوض"، مضيفاً "تتزايد حالات الإصابة في غرب المحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا، وشهدت هذه البلدان تفشياً كبيراً لحمى الضنك عامي 2024 و2025، ويشهد الاتجاه العام للحالات عالمياً ارتفاعاً مستمراً". 

تشريح اللدغة

تعد لدغات البعوض عبارة عن نتوءات صغيرة مرتفعة على الجلد تنتج من تغذية البعوض الأنثى على دم الإنسان، والبعوض حشرات صغيرة طائرة، لها 6 أرجل وأجزاء فم طويلة تتغذى على الدم والرحيق، فتتغذى إناث البعوض على الدم ورحيق الأزهار، بينما يتغذى ذكور البعوض على رحيق الأزهار فقط. فالبعوض يعض ويمتص الدم للتكاثر لأن الإناث تحتاج إلى البروتين الموجود في الدم لتكوين البيض، وتوجد 3 أنواع مختلفة من البعوض في أنحاء مختلفة من العالم، "الزاعجة" و"الكيولكس" و"الأنوفيلة"، وغالباً لا تسبب لدغات البعوض أي ضرر دائم، بل تسبب إزعاجاً وتهيجاً خفيفين فترة قصيرة، ومع ذلك يشكل البعوض خطراً لأنه ينشر أمراضاً قد تكون قاتلة.

للبعوض خرطوم أو فم طويل يمتد إلى ما وراء رأسه، ويشبه إبرة صغيرة، فعندما يلدغ البعوض، فإنه يستخدم هذا الخرطوم لاختراق الجلد، وامتصاص الدم، وإفراز لعابه في مجرى الدم. وعندما تفرز البعوضة لعابها في مجرى الدم، يسجله الجسم كمسبب للحساسية، فيرسل الجهاز المناعي مادة "الهيستامين" الكيماوية إلى المنطقة التي تعرضت للدغة البعوضة لإزالة مسبب الحساسية من الجسم، لذا فـ"الهيستامين" هو ما يسبب الحكة والتورم بعد لدغات البعوض، وعليه يعاني معظم الناس من حساسية لدغات البعوض. ومن خلال لدغاته ينشر البعوض الأمراض، وهو يعد من النواقل، أي كائنات حية تنقل الأمراض بين الحيوانات والبشر، وغالباً ما تنقل النواقل العدوى عبر الدم، لأن عديداً من الكائنات المصنفة كنواقل هي مصاصات دماء، ومن بين النواقل الأخرى القراد والبراغيث وذباب الرمل.

علمياً، البعوض لا يلدغ عندما يتناول وجبة الدم، وبدلاً من ذلك، يدخل خرطومه في الجلد، وبينما يبحث عن الدم، يقذف مزيجاً لعابياً من موسعات الأوعية الدموية ومضادات التخثر ومكونات أخرى مضادة للنزف في كل من البشرة والأدمة، إضافة إلى العوامل التي تحافظ على تدفق الدم أثناء الاحتقان، ويحتوي لعاب البعوض على بروتينات تعدل كل من الاستجابات المناعية الفطرية والتكيفية، وتتغذى البعوضة بطريقة تسمى التغذية بالرشفة، وتعني أنها لا تمتص كل الدم الذي تحتاج إليه من مصدر واحد، بل تتناول وجبات متعددة من مصادر متعددة، وهذا يعرض مزيداً من الناس للإصابة.

أمراض ينقلها البعوض

تعد الأرض موطناً لما لا يقل عن 3546 نوعاً من البعوض، ونحو 100 منها فقط تلسع البشر، ومن بين هذه الأنواع، هناك نوعان معروفان بقدرتهما على حمل الفيروسات المنقولة بالمفصليات، وهي المسؤولة عن أمراض مثل الحمى الصفراء وحمى الضنك وحمى شيكونغونيا ومرض فيروس "زيكا" الذي يقتل نحو 60000 شخص سنوياً. وهما بعوض "الزاعجة البيضاء" و"الزاعجة المصرية". وتعد بعوضة "الزاعجة" أقل إزعاجاً من أقاربها، بعوضة "الأنوفيليس" التي تحمل الملاريا المسؤولة عن 435000 حالة وفاة عام 2015، هي موجودة الآن في كل مكان تقريباً في العالم.

فالملاريا التي تنتشر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، هي مرض طفيلي تسببه طفيليات البلازموديوم وينقلها بعوض "الأنوفيلة"، وتشمل أعراض الملاريا الحمى والصداع والقيء، وقد تكون قاتلة، لذا تشير التقديرات إلى حدوث 263 مليون إصابة بالملاريا 597000 حالة وفاة بسببها في 83 بلداً حول العالم عام 2023. بينما ينتشر فيروس شيكونغونيا في أفريقيا والأميركيتين الشمالية والجنوبية وآسيا وأوروبا وشبه القارة الهندية، وينتقل من طريق بعوضة "الزاعجة المصرية"، وتشمل أعراض هذا الفيروس، الحمى وآلام المفاصل والعضلات والصداع والغثيان والتعب والطفح الجلدي، وعام 2025 سجلت 458840 حالة إصابة بمرض فيروس شيكونغونيا و146 حالة وفاة مرتبطة به حول العالم، وقد ازداد عدد الحالات مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.

أما فيروس "زيكا" فينتشر في أفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية وآسيا ومنطقة المحيط الهادئ، وينتقل من طريق بعوضتي "الزاعجة المصرية" و"الزاعجة البيضاء"، وبمجرد إصابة الشخص يمكن أن ينتقل الفيروس من شخص لآخر من طريق الاتصال الجنسي. وتشمل أعراض "زيكا" حمى خفيفة وصداعاً وآلاماً في المفاصل والعضلات وطفحاً جلدياً وتهيجاً في العينين، وفي حال إصابة المرأة الحامل بـ"زيكا"، يمكن أن يؤثر الفيروس على الجنين النامي. 

أحدث أقدم

نموذج الاتصال