الباحث دانيال بيك يكشف سلطة التكنولوجيا الحديثة وكيفية تحكمها بالعقول
عرف مصطلح "غسيل الدماغ" في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي انتشاراً واسعاً كوسيلة ملائمة لتطوير الإيديولوجيات الشمولية وتطهير العقل من جميع المعتقدات السابقة. وقد استخدم من ثم للإشارة الى كل ما يعارض القيم التقليدية واستقرار المجتمع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. فأطلق على الأنظمة السياسية المغلقة، الستالينية والماوية والنيونازية، وكذلك على الإيديولوجيا الدينية المتطرفة والشعبوية.
ولكن لطالما كان هذا المصطلح غامضاً بحيث يصعب تحديده بدقة، ومثيراً للجدل ويحمل دلالات متناقضة. فهل يمكن اعتبار اهتمامات مقدمي الأخبار المالية والمذيعين والمحللين والخبراء تندرج في سياق "غسيل دماغ" أم أن هذه الكلمة تدل على الممارسات الأكثر تطرفاً وضمنها تلك التي تطورت تطوراً فظيعاً داخل المجتمعات المغلقة والطوائف المتعصبة؟
يتصدى دانيال بيك في"غسيل الأدمغة، تاريخ التحكم في العقول" لهذا السؤال الإشكالي، فيذهب إلى أن مسألة غسيل الأدمغة على الضد من التفسيرات الأحادية، تستحق النظر حتى في الأنظمة السياسية المفتوحة نسبياً أو البيئات المؤسسية، اذ يتعرض الأشخاص في هذه الأنظمة والبيئات لروايات مضللة ووعود خيالية وتأكيدات زائفة.
الخلفية التاريخية
في الخلفية التاريخية لمصطلح "غسيل الدماغ" نجد أن الصحافي الأميركي هانتر الذي عمل في خدمة الإستخبارات الحربية الأميركية، وفي وكالة الإستخبارات المركزية بعد الحرب الكورية 1950 صاغ هذا المصطلح، أثناء السنة الأولى من الحرب. فرأى، عندما استخدمه في مقالاته وكتاباته ومؤلفاته، أن ثمة خطراً مخيفاً ومتصاعداً في بروز ظروف تاريخية جديدة تتعلق بالسيطرة على العقل، كما رأى في هذه الظاهرة نوعاً من التدخل النفسي الذي تجيد بعض الدول استخدامه. وقد أعطى هذا توجيهاً حقيقياً للهجمة على أفكار الأفراد. وإذ توسع هانتر في شرح تهديد عمليات غسيل الدماغ، اكتشف أن هذه الظاهرة تعبّر عن توليف قاتل جديد يجمع بين الإيديولوجيا والتكنولوجيا والطب والعلوم النفسية، وبإمكانه التأثير في الواقع الاجتماعي في أية دولة. من ذلك، على سبيل المثال، تكتيكات غسيل الدماغ التي تحث الصينيين على الإنضمام إلى صفوف الحزب الشيوعي، أو المقالات التي كتبت في الغرب حول الحرب الدعائية التي نفذتها، خلال الحروب العالمية الأولى والثانية، كل من ألمانيا النازية والإتحاد السوفياتي.
غسيل الدماغ يشبه إلى حد ما، في رأي هانتر، السحر والطقوس السرية والانعزال عن الواقع المحيط، ويبقى التحدي الأول في تحديد أساليب غسيل الدماغ وكيفية مواجهتها والصمود أمامها. وكذلك الحد من قلقنا وتساؤلاتنا حول حدود حريتنا، لا سيما وأن غسيل الدماغ نُفّذ على ملايين الأفراد من دون موافقتهم المستنيرة، فضلاً عن كيفية فصل مفهوم غسيل الدماغ عن أفكار أخرى تتعلق بالتعليم والإقناع والتأثير.
ومع اقترابنا من المرحلة الزمنية الحديثة، يُظهر مصطلح "غسيل الدماغ" وجوده الكثيف في حياتنا اليومية واستخدامه المتكرر بأشكال متعددة. وإذا كان من الصحيح أن منصات مثل فيسبوك أو إنستغرام أو يوتيوب أو تيكتوك توفر فرصاً للحرية والاتصال والتواصل والتعبير عن الذات، ولكن هناك في المقابل، فخاخ كبيرة تتربص في هذه المنصات، فتقوم بطريقة وأخرى، بغسل أدمغة المستخدمين والتأثير فيهم. فالموارد الالكترونية أو البرمجيات صممت بدقة لتكون أكثر من مريحة وتحتوي على أدوات ابداعية، ولتكون كذلك، إدمانية على نحو كبير. وقد امتد مصطلح غسيل الدماغ ليشمل، ليس فقط الشخصيات البارزة مثل بن لادن، بل أيضا سلوك منافسه "تنظيم الدولة الاسلامية". فهل يكون هذا المصطلح تفسيراً كافياً للأسباب الفعلية التي دفعت العديد من الأشخاص إلى الإنضمام إلى هذه القضايا؟
مخاطر راهنة
لم يستطع هانتر تسليط الضوء على وجود مخاطر معينة في العالم الغربي أيضاً، في حين تستمر الجدالات بشأن غسيل الدماغ داخل دول ديمقراطية ودول قمعية على حد السواء. وتهديدات التلاعب بالأفكار، لا تقتصر على الأحداث التاريخية فقط، وليست مقيدة بحدود مؤسسة شاملة، بل هي موجودة الآن في عالم القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه، حتى ولو كنا نتمتع بدرجة عالية من الحرية النسبية.
